المادة    
اختلفت الروايات في ذكر ماذا قال الله لذرية آدم فرواية تقتصر عَلَى أنه قَالَ: {خلقت هَؤُلاءِ للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثُمَّ مسح ظهره فاستخرج ذرية قَالَ: خلقت هَؤُلاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعملون} وفي روايات أخرى أنه نثرهم بين يديه وكلمهم قبلاً، وقال لهم: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)) [الأعراف:172، 173].
ولا تعارض بين الروايتين فبعد الاستخراج كَانَ ذلك، وما المانع أن يستخرجهم عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يخاطبهم، وبعد أن يخاطبهم يجعل من يشاء منهم في الجنة ومن يشاء في النار، ويقول: {خلقت هَؤُلاءِ للجنة ولا أبالي، وخلقت هَؤُلاءِ للنار ولا أبالي} لا مانع من ذلك ولا تعارض بين الحديثين.

وحديث التِّرْمِذِيّ الذي يرويه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فيه اختلاف في ألفاظه يقول: {لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِه إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَجَعَلَ -وهنا الزيادة- بَيْنَ عَيْنَي كُلِّ إنسَانٍ مِنْهُم وَبِيصاً مِنْ نُورٍ} فهو لما استخرجهم في عالم الذر جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من النور كأنه علامة عَلَى أن هذا إنسان وهذا إنسان، فجمعهم كلهم سبحانه بين يديه ورآهم آدم ورأى هذه الأشكال، ورأى أن علامة كل إنسان أن بين عينيه وبيص من النور فيرى هذه الجموع التي لا يعلم عددها إلا الله {ثُمَّ عَرَضْهَم عَلَى آدَمَ، فقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هَؤُلاءِ ذُرِّيَّتُكَ} فأخذ آدم ينظر ويتعجب، هذه ذريتي ويكون منها هَؤُلاءِ البشر إِلَى قيام الساعة؟! فتعجب! ولكن الله تَعَالَى عَلَى كلِ شيءٍ قدير يفعل ما يشاء.
{ثُمَّ إنَّ آدَمَ رَأَى رَجُلاً مِنْهُم، فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ ما بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هذا؟ قَالَ: هَذَا رَجلٌ مِنْ آخرِ الأُمَمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لهُ دَاودُ عَلَيْهِ السَّلام}.
هنا جَاءَ السؤال من آدم عَلَيْهِ السَّلام بعد أن أعجبه هذا الوبيص الذي بين عينيه {قَالَ: رَبِّ، كم عُمرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةَ، قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعَينَ سَنَةَ، فَلَّمَا انقَضَى عُمُرُ آدَمَ، جَاءَ مَلَكُ المَوْتِ، قَالَ: أَولَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةَ؟} وانظر كيف حرص الإِنسَان عَلَى الحياة؟ {قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابنَك دَاوُدَ؟}

فعقبَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك بقوله: {فَجَحَدَ! فَجَحَدَتْ ذُرِّيـَّتَهُ، وَنَسِيَ آدَمُ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيـَّتَهُ، وَخَطِئ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيـَّتَهُ} هكذا ركبنا نَحْنُ البشر من الجحود والنسيان والخطأ، وليس هذا هو الشر بذاته ولا عيب بذاته، إنما العيب والخطأ أن يصر ابن آدم عَلَى الجحود، وأن يستمر عَلَى النسيان وأن لا يبالي بالأخطاء، فلا يستغفر ولا يتوب، فهذه هي المشكلة.
أما فطرته وجبلته وخلقته ففيها الجحود والنسيان والخطأ، فإن آدم حاج في هذه الأربعين وجحدها بعد أن كَانَ أعطاها ونسي ((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)) نسي ما أوصاه الله تَعَالَى به، ولم يكن له العزم ليقف أمام شهوة حب الخلود، وأن يكون ملكاً؛ بل أغراه الشيطان بذلك فضاعت عزيمته أمام هذه الحيلة الشيطانية وخطئ آدم فأكل من الشجرة فخطئت ذريته، وكل بني آدم من طبعه الجحود والنسيان، والخطيئة
هذا شرح ألفاظ الحديث وهو شاهد لحديث عُمَرَ من أنه استخراج حقيقي وأن الاستخراج كَانَ بمسح الله تَعَالَى بيمينه الشريفة فخرجت ذرية آدم من ظهره.
إذاً: هذا الحديث من النوع الذي ليس فيه تعرض ولا ذكر للاستشهاد، ولكن فيه ذكر للاستخراج فهو كحديث عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ولهذا نجد أن أكثر من طعن في هذه الأحاديث تركز طعنه في ابن عباس لأنه هو الذي صرح.
ولهذا يذكر المُصنِّفُ الحديث الذي يَسندُ ويرجح حديث ابن عباس - ولا شك في صحته - وهو حديث أنس الذي رواه الإمام أَحْمَد يقول: وروى الإمام أَحْمَد -وهو في الصحيحين- عن أنس بن مالك عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شيءٍ. أَكُنْتَ مُفْتَدِياً بِهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ في ظَهْرِ آدَمَ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئاً، فَأَبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بي}.
وهذا الحديث رواه البُخَارِيّ ومسلم بالإضافةِ إِلَى رواية الإمام أَحْمَد، فلا مطعن فيه من حيث الصحة، ومع ذلك هو أصرح كما نص عَلَى ذلك المُصنِّفُ نفسه، فقد قال -كما سيأتي-: وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول حديث أنس المخرج في الصحيحين، وليس فيه في ظهر آدم، وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم عَلَى الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول وهناك رد عَلَى هذا الكلام سنبينه.